التعامل مع المخطئ
خلق الله الإنسان وفي جبلته وتكوينه القصور والوقوع في الخطأ، فنحن جميعاً ذوو نسب عريق في الخاطئين والمخطئين.
لكننا
مع يقيننا بهذه المسلَّمة لا نكاد نتذكرها إلا حين يخطئ أحدنا، فيستعتب
ويعتذر بالاستشهاد بقوله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء»، ويرى أن
من حقه على الآخرين أن يقبلوا عذره ويصفحوا عن زللـه، إذ هو أخوهم غير
المعصوم من الخطأ .
لكن الواحد فينا ينسى هذه المسلّمة تماماً حين يخطئ
الآخرون في حقه ، فيعصيه ابنه، أو تتلكأ في تنفيذ أمره زوجُه ، التي هي
أيضاً تغضب من خادمتها حين احترق الطعام بسبب نسيانها ، وأما ابنهما فقد
هجر صاحبه وخله الوفي لأنه أخطأ في التصرف معه ذات مرة، وهكذا ينسى الواحد
فينا أنه أحد هؤلاء المخطئين، وتثور ثائرته بسبب، وأحياناً من غير سبب.
وهنا
تحين منا اِلتفاتة إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ، لنتلمس هديه صلى
الله عليه وسلم في التعامل مع المخطئين، لنرى كيف قوَّم صلى الله عليه
وسلم اعوجاجهم؟ هل صرخ في وجوههم؟ هل تناولهم بالضرب والتجريح؟ فإذا عرفنا
ذلك؛ فإنا نتعلم منه صلى الله عليه وسلم كيف ينبغي أن نتعامل مع المخطئ.
الحلم والعفو والإحسان إلى المسيء :
أول
الأخلاق العظيمة التي يقابل المؤمن فيها جهل الآخرين عليه وإساءتهم إلى
شخصه ؛ أن يلقاهم بالعفو والحلم، بدلاً من الغضب والانتقام، فإن الحلم
والعفو خلقان يحبهما الله تعالى، ويحبهما رسوله المبعوث ليتمم مكارم
الأخلاق.
لقد أصبح من البدهي أن يعفو المرء ويتجاوز في مقابل من يعلوه
شرفاً أو مالاً أو منزلة، فيحْلُمَ عن إساءة رئيسه في العمل أو أخيه الأكبر
أو غيرِهم ، لكن ذلك ليس من الحِلْم، وإن كان من جميل الصفات، فالحلم أن
تتجاوز وتصبر على خطأ الجميع، الصغيرِ منهم والكبير، لذا أكد النبي صلى
الله عليه وسلم على التحلي بهذه الخصلة الجميلة تجاه أخطاء الضعفاء ،
كالخدم، فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله كم أعفو عن
الخادم؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعاد الرجل السؤال، وقال: يا
رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كل يوم سبعين
مرة» ( ).
وفي معنى قوله: «سبعين مرة » يرى الكلاباذي أن المقصود منه
الكثرة لا التحديد، فقد وردت أخبار بذكر السبعين في نصوص قرآنية ونبوية
كثيرة ، كلُها تدل على الكثرة، لا على التحديد والغاية، منها قول الله
لنبيه عن المنافقين: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ﴾
(التوبة: 80)، فليس هذا على التحديد والغاية ؛ لأنه لو استغفر لهم مائة
مرة لم يغفر الله لهم، لكونهم كفاراً منافقين( ).
وأول منازل الحِلم؛
كظمُ الغيظ وتجرعُه واحتمالُ سببه والصبرُ عليه وعدمُ مواجهة أخطاء الآخرين
بالسباب والصُراخ وغيرٍه من صور التضجر والتأفف، وقد حثّ على ذلك صلى الله
عليه وسلم بقوله: «من كظم غيظاً وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله يوم
القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء» ( )، وهذا
الحمد والجزاء لكظم الغيظ "لأنه قهرٌ للنفس الأمارة بالسوء، ولذلك مدحهم
الله تعالى بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ
النَّاسِ﴾ (آل عمران: 134)، ومن نهى النفس عن هواهُ فإن الجنةَ مأواه،
والحورَ العين جزاؤه، وهذا الثناء الجميل والجزاء الجزيل ترتب على مجرد كظم
الغيظ، فكيف إذا انضم العفوُ إليه ، أو زاد بالإحسان عليه"( ).
وهكذا
فإن كظم الغيظ عند إساءات الآخرين من أحب الأعمال إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، الذي قال: «ألا إن عمل الجنة حزْنٌ بِرَبوة [أي كصعود مرتفع
صعب]، ألا إن عمل النار سهل بسهْوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعةٍ
أحبُّ إلي من جرعة غيظ يكظِمها عبد، ما كظمها عبد للهِ إلا ملأ الله جوفَه
إيماناً» ( ).
قال ابن بطال: "مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب،
وأثنى عليهم، وأخبر أن ماعنده خير وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا
وزينتِها، وأثنى على الكاظمينَ الغيظ والعافينَ عن الناس، وأخبر أنه يحبهم
بإحسانهم في ذلك"( ).
لكن الإسلام وهو يهذب أنفسنا لا يكتفي بتصبيِر
المرء نفسَه وهو يطوي الغيظ في قلبه على من أخطأ عليه، بل يطالبه بالانتقال
إلى المنزلة الثانية من منازل الحِلم، وهي العفو عن المخطئ ﴿
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ (آل عمران: 134)،
ذلك أن "العفو عن الناس من أجلِّ ضروب فعل الخير؛ حيث يجوز للإنسان أن
يعفو حيث يتجه حقُه... وكظم الغيظ والعفو عن الناس من أعظم العبادة وجهاد
النفس"( ).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التجمل
بصفة العفو، يقول أنس بن مالك: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه
شيء فيه قِصاص إلا أمر فيه بالعفو) ( )، فالعفو عن المخطئ ومسامحته خلق
جليل أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ
الْجَمِيلَ ﴾ (الحجر: 85).
وقد سبق صلى الله عليه وسلم إلى خلة العفو؛
فما كان قلبه ينطوي على غيظ على صاحب إساءة، فحين مرّ بمجلس المنافق عبدِ
الله بنِ أُبي ابن سلول ، أساء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاستشار
النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أمر إساءته سعدَ بنَ عبادة سيد الخزرج،
فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه، واصفح عنه، فوالذي أَنزل عليك الكتاب،
لقد جاء الله بالحق الذي أُنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه المدينة على أن
يتوجوه، فيُعصِّبوه بالعِصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله
شَرَق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم(
).
ولما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاب صلح الحديبية مع كفار قريش
كره بعض سفهائهم الصلح مع المسلمين ، ونزل ثمانون رجلاً منهم من جبل
التنعيم متسلحين يريدون غِرَّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن الله
خذلهم وكشف أمرهم فأُخِذوا، واستحياهم النبي صلى الله عليه وسلم أي عفا
عنهم، ففي شأن هؤلاء أنزل الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ (الفتح: 24).
وحين دخل النبي صلى الله عليه
وسلم مكة فاتحاً مر بشعابها التي عذب فيها أصحابه وقتلوا في سبيل دينهم،
والذكريات المؤلمة تتخايل أمام عينيه، ولو تخايلت أمام ناظري ملك أو سوقة
لأشعلت من حب الانتقام ما يحرق بشرره قلوب الطغاة ويشفي صدور المستضعفين.
لكن
تلك الذكريات على مرارتها لم تمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصفح
الجميل فآثره على الانتقام والتشفي، فنادى أهل مكة: «ما تقولون إني فاعل
بكم؟».
فقالوا والخوف المختلط بالرجاء يملأ قلوبهم: خيراً، أخ كريم
وابن أخ كريم. فتعالى النبي صلى الله عليه وسلم على عمق الجراحات وألم
العذابات وقال: «أقول كما قال أخي يوسف: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (يوسف:
64)، اذهبوا فأنتم الطلقاء» ( ).
وعفو النبي صلى الله عليه وسلم وتجاوزه
عن مظالم قريش هو امتثال لأمر الله تعالى ، حيث قال آمراً نبيه صلى الله
عليه وسلم: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ ﴾ (الأعراف: 199)، فهذه الآية "تضمنت قواعد الشريعة في
المأمورات والمنهيات فقوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾ دخل فيه صلة القاطعين،
والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغيرُ ذلك من أخلاق المطيعين.
ودخل في قوله: ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
وفي
قوله: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ الحضُ على التعلق بالعلم،
والإعراض عن أهل الظلم، والتنـزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة
الأغبياء، وغيرُ ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة"( ).
ومن عفوه
صلى الله عليه وسلم مسامحته لليهودية التي همّت بقتله يوم خيبر، فأتته
بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها فقيل: ألا نقتلها؟ فقال الرحمة المسداة
صلى الله عليه وسلم: «لا»( )، فعفا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما
مات بشر بن البراء بسبب ذلك السمِّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها
قصاصاً له.
وفي مرة أخرى نام النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ، علق
بها سيفه، فجاء أعرابي فاخترط سيفه، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم
والسيف في يده صَلتاً، وهو يقول: من يمنعُك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم بلسان المؤمن المستعين بربه: «اللهُ عز وجل».
فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ فما وجد الأعرابي إلا أن يقول مسترحماً: كن كخير آخذ.
فقال صلى الله عليه وسلم: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: لا، ولكني
أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلى النبي صلى الله
عليه وسلم سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس( ).
قال
ابن حجر: "كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته ، فمنَّ عليه لشدة رغبة النبي
صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام ، ولم يؤخذ بما
صنع ، بل عفا عنه"( ).
وتخلق النــبي صلى الله عليه وسلم بصفـة العفــو
مذكور في الكتب التي تنبـأت عنه صلى الله عليه وسلم قبل الإسـلام، فقد روى
البخـاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال:
(والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن .. ليس بفظ ولا غليظ،
ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه
الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله. ويفتح بها
أعيُناً عُمياً، وآذاناً صُماً، وقُلوباً غُلفاً) ( ).
وقوله: (ولا يدفع
بالسيئة السيئة) معناه: "لا يسيء إلى من أساء إليه على سبيل المجازاة
المباحة ما لم تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال تعالى: ﴿ وَلَمَن
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ (الشورى: 43)" (
)، فصدق فيه صلى الله عليه وسلم ما قاله الله في وصف المؤمنين: ﴿
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ (الشورى: 37)، أي "يتجاوزون ويحلمون هم عمن
ظلمهم .. وهذه من محاسن الأخلاق، يشفقون على ظالمهم، ويصفحون عمن جهل
عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه"( ).
وكما امتثل النبي
صلى الله عليه وسلم صفة العفو فإنه رغب أمته بهذا الخلق النبيل: «ما نقصت
صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا
رفعه الله» ( ).
وقد امتثل هذا الخلق المؤمنون تأسياً به صلى الله عليه
وسلم ، ومنهم الخليفة عمر بن الخطاب t حين قدم عليه عيينة بن حصن فقال
مخاطباً الخليفة الذي دانت له الروم والفرس: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما
تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به.
فقال له
الحُرُّ بنُ قيس: يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله
عليه وسلم: ﴿خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ
ٱلْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)، وهذا من الجاهلين.
يقول ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله( ).
لكن
المثال الأعلى في التعامل مع المخطئين ليس الوقوف على حال كظم الغيظ
والعفو فحسب، بل الانتقال إلى منزلة ثالثة أعظم، وهي الإحسان إلى المخطئ،
فكظم المرء غيظه فعل حسن، وأحسنُ منه العفو عن المسيء، وأعظم من هذا وذاك
أن نحسـن إلى من أســاء إلينــا، فنقابـل الإســاءة بالإحسـان
﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ
فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ
عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (آل عمران: 133-134).
وحين
أخبر الله تعالى نبيه عن بعض مكر المشـركين من أهل الكتاب وخيانتهم له؛
أمره بالعفو عنهم والصفح، لا بل حثه على الإحسان إليهم: ﴿ وَلاَ تَزَالُ
تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيـلاً مِّنْهُـمُ
فَـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (آل
عمران: 13).
وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خلة الإحسان إلى
المسـيء بفعله الجميل حين جاءه رجل يشكو قرابته الذين يقابلون إحسانه
بالإساءة، فقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعون، وأحسنُ إليهم
ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون علي؟! فقال صلى الله عليه وسلم مشجعاً له
على الاستمرار في الإحسان إلى المسيئين: «لئن كنتَ كما تقول فكأنما
تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمت على ذلك»( ).
لقد
أمر الله تعالى نبيه وأتباعه من المؤمنين بمقابلة الإساءة بالحسنة :
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (المؤمنون: 96)، وقد قال ترجمان القرآن
ابن عباس في تفسيرها: (الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوه
عصمهم الله وخضع لهم عدوهم) ( ).
ولن يفوتنا تأمل الهدي النبوي في
التعامل مع إساءة كبرى تتعلق بالعِرض، وهو من أعظم ما يُغضَب له وينتقم،
وذلك في قصة أبي بكر الصديق مع ابن خالته مِسطح بنِ أثاثة، فقد كان الصديق
يتعهده بالنفقة والإحسان والرعاية، فلما تحدث أصحاب الإفك في ابنته عائشة
كان مسطح فيمن تحدث فيها، فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مِسطح شيئاً
أبداً.
ولو قدر لأحدنا أن يمثُل في مثل هذا الموقف لأرعد وأزبد، ولسب
وجدّع، ولربما قتل أو ارتكب جناية ، إذ قد يعفو المرء عن كل جناية إلا فيما
يخص الأعراض، فكيف يكون الحال والأمر متعلق بالطاهرة أم المؤمنين وحبيبة
رسول رب العالمين.
وإذا كان الظلم من الغريب مفهوماً ؛ فإنه مستنكر
وقبيح من القريب ، ويزيد قبحه إذا كان بحق محسن وصاحب حق، لذا فلا أرى
الصديق جانب العدل حين قرر: (والله لا أنفق على مِسطح شيئاً أبداً).
لكن
الله يرتفع بالمؤمن عن مرتبة العدل إلى منزلة الفضل، فأنزل: ﴿ولا يأتل
أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل
الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم﴾
(النور: 22)، فقال أبو بكر: (بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي). فأعاد
النفقة عليه، وقال: (والله لا أنزعها منه أبداً) ( ).
ولو همست في أذن
الكثيرين منا اليوم: أين موقعنا من هذه الأخلاق في التعامل مع المسيئين فإن
الإجابة ستكشف بُعدَنا الكبير عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو
سألنا واحداً من هؤلاء المتنكبين هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العفو
والصفح والإحسان إلى المسيء؛ لاعتذر بأن المعاملة الحسنة مع المخطئين
تغريهم بالمزيد من الإساءة، وأنه بتجربته الواسعة اكتشف أن العنف والضرب
أقدر على إصلاح العوج وتقويمه من أي وسيلة أخرى، فالضرب هو الطريق الأقرب
في تقويم الاعوجاج عند الكثيرين منا، فهو ميسور يقدر عليه كل واحد منا؛
وبخاصة إذا كان المخطئ أو المقصـر بحقنا أضعف منا، كالابن أو الخادم ،
وأحياناً يمارسه بعض السفهاء - ممن لم يفهم شراكة الزوجة وحقوقها - مع
زوجته، فيستقوي على أنوثة لطيفة بذكورة جافية لم تبلغ به قدر الرجال.
ونقول
لهؤلاء وأولئك: إن الذين تتحدثون عن تقويمهم بالضرب من جنس أولئك الذين
احتمل النبي صلى الله عليه وسلم أخطاءهم، فرباهم بغير الضرب والعنف، رغم أن
جرم بعض أولئك أكبر بكثير من أخطاء أبنائنا أو خدمنا أو زوجاتنا، ومع ذلك
فإن سيد الرجال محمد صلى الله عليه وسلم ما كان يستخدم الضـرب وسيلة في
تقويم اعوجاج معوج ، فلم يضرب صلى الله عليه وسلم قط أحداً تأديباً ، وما
كان الضـرب والعنف مسلكاً له صلى الله عليه وسلم إلا في ميادين الجهاد
والتضحية في سبيل الله، حدَّثت بذلك زوجه الصديقة عائشة رضي الله عنها
فقالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا
خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله»( ).
نعم، الضرب وسيلة مباحة شرعاً
ومقبولة في دروب التربية وتصحيح الخطأ إذا انضبطت بضوابطها الشرعية
وآدابها، لكن تركه أفضل وأولى ( )، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ،
واستعاضة عنه بوسائله صلى الله عليه وسلم في التربية، تلك الوسائل التي لا
يكاد يطرقها الكثير من الآباء مع أبنائهم، ولا المعلمون مع طلابهم، لكنه
محمد صلى الله عليه وسلم معلم الأمة، وقدوة المربين إلى يوم الدين.
منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تربية المخطئين :
المخطئ
له حق على مجتمعه، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه بأفضل الطرق وأقومها، وهو
ما لم يفرط به صلى الله عليه وسلم ، بل كان سيد الناصحين، وأستاذ
الموجهين، وأول وسائله صلى الله عليه وسلم في التربية ومعالجة الخطأ؛
التربية بالابتسامة، الابتسامة الحانية يعاتب فيها صلى الله عليه وسلم
المخطئ ويوجهه ويقوِّم سلوكه، فحين تخلف كعب بن مالك الأنصاري عن النبي صلى
الله عليه وسلم يوم تبوك من غير عذر دخل عليه ، وقد فاته الخير العظيم، بل
رتع في الإثم الكبير الذي يوجب تأنيبه وتهذيبه، فالتخلف عن تلك الغزوة بلا
سبب من كبائر الذنوب والآثام.
ولنصغ إلى كعب وهو يصف لنا لقاءه بالنبي صلى الله عليه وسلم حين رجوعه من تبوك: "فجئته فلما سلمت عليه؛ تبسَّم تبسُّم المغضب"( ).
عقاب
فريد لا يكاد يتذكره عباقرة التربية، عاقبه بابتسامة قرأ كعب من خلالها
الحب الممزوج بالعتاب والتهذيب؟! من غير سباب ولا صراخ، لم لا نحاول اليوم
تعلم هذا الفن من فنون التربية؟
إن ابتسامة المغضب تتناسب مع عظم الجرم،
لكنها ليست النوع الوحيد من ضروب التربية بالابتسام، ففي أحيان أخرى كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقابل الخطأ بابتسامة من نوع آخر، ابتسامة
الحنان والحب الدافق، كما صنع مع خادمه أنس بنِ مالك t لما أمره النبي صلى
الله عليه وسلم أن يذهب في بعض حوائجه، فانشغل عنها بلعب الصبيان كعادة
أطفالنا اليوم وغداً وفي كل حين.
فقد خرج أنس لحاجة النبي صلى الله
عليه وسلم ، فرأى الصبيان يلعبون في السوق، فانشغل عن حاجة النبي صلى الله
عليه وسلم باللعب معهم، كما ينشغل كثير من غلماننا اليوم، فاستبطأه النبي
صلى الله عليه وسلم وخرج يبحث عنه، فوجده يلعب مع الصبيان، فلله دره ما
أحلمه صلى الله عليه وسلم ، مَن من الآباء أو المربين يطيق صبره على مثل
هذا الغلام؟ ما صرخ صلى الله عليه وسلم ولا ضرب ولا سب؟ حاشاه فهو أسوة
المسلمين الذي رباه رب العالمين.
لنصغ إلى أنس وهو يقص علينا خبره مع
النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أحسن الناس خُلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسـي
أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم.
فخرجت حتى أمرّ على
صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت
إليه وهو يضحك، فقال: «يا أُنيس، أذهبتَ حيث أمرتك؟» فقلت: نعم، أنا أذهب
يا رسول الله ( ).
لقد ضحك صلى الله عليه وسلم، وأدرك أن خادمه طفل يعرض
له ما يعرض لأمثاله من حب اللعب والتشاغل به ، فنبهه على تقصيره بيد حانية
أمسكتْ بقفاه، وشفعها بابتسامة حانية، تجدد الحب وتلتمس المعاذير.
وأما
صيغة النداء مع هذا الصبي المتشاغل باللعب، المتلكئ عن المبادرة
والمسارعة لتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهي درس آخر من دروس
التربية والتوجيه، فقد قال له صلى الله عليه وسلم متحبباً: « يا أُنيس»،
وتصغير الاسم ضرب من ضروب التحبب والتألف والتودد، وهو خير من قواميس
الكلمات النابية التي ننشرها في وجوه أبنائنا وخدمنا وغيرهم ممن يخطئون
علينا أو يتلكؤون في تنفيذ أوامرنا التي نظن أنها لا تقبل التلكؤ والتأخير.
وذات يوم دخل شاب على نبي الطهر والفضيلة صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أمر جلل فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا!
أمر
عجب، يستأذن أطهر البشر في صنع أرذل الخطايا، أما يستحي! أما يرعوي! لقد
ناله من الصحابة رضوان الله عليهم ما يتوقع لمثله من التقريع والتأنيب،
يقول أبو أمامة: فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه.
وأما النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقد أدرك أن مشكلة الشاب وانحرافه لن يقوَّم بالزجر
والوعيد والتقريع، فقال صلى الله عليه وسلم له: «ادنه» فدنا منه الشاب
قريباً فقال له صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لأمك؟» فانتفض الشاب غَيرة على
أمه وقال: لا، والله جعلني الله فداءك. فقال له صلى الله عليه وسلم: «ولا
الناس يحبونه لأمهاتهم».
ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يستثير كوامن
الغيرة الممدوحة في صدر الشاب: «أفتحبه لابنتك؟» فأجاب الشاب: لا والله يا
رسول الله، جعلني الله فداءك. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بمنطقية
المربي: «ولا الناس يحبونه لبناتهم».
ثم جعل رسول الله يستل بحكمته
ومنطقه دخن قلبه، ويطفئ نار شهوته بتعداد محارمه، «أتحبه لأختك؟ .. أتحبه
لعمتك؟ .. أتحبه لخالتك؟» هل تحب أن تراهُنَّ وقد تعرضن لمثل ما تريده من
محارم الآخرين؟! فالناس يكرهون هذه الفعلة في محارمهم، كما كرهها هو في
أهله .
فلما استبشع الشاب فِعلة الزنا؛ طلب صلى الله عليه وسلم له سبباً
آخر من أسباب الهداية يغفل عنه الآباء والمربون، ألا وهو دعاء الله الذي
يملك أزِمّة القلوب ومفاتيحها، فقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن
فرجه».
واستجاب الله له، يقول أبو أمامة : فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء( ).
قصة
بليغة تضمنت دروساً متعددة في التعامل مع المخطئ، ليس أولها الدعاء له
والحنو عليه، والسماح له بالتعبير عن كوامنه، واستجاشة الخير الذي لا يخلو
منه قلب خاطئ أبداً، وفيها دعوة لنا لنراجع أنفسنا، ونغير من طريقتنا في
التعبير عن ضجرنا من أخطاء أبنائنا وأصدقائنا، فالسب والشتم الذي نكيله
للمخطئين لن يكون سبباً في إصلاحهم وتهذيب سلوكهم وتعريفهم بأخطائهم.
ويضيف
النبي صلى الله عليه وسلم في موقف آخر مأثرة أخرى يدعى إلى مثلها المربون ،
وهي ترك العتاب والتدقيق والتحقيق الذي يستجر المخطئ إلى الكذب، لينضاف
إلى أخطائه خطأ آخر ، يقول أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم:
«والله لقد خدمت النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، ما علمته قال لشـيء
صنعتُه: لم فعلتَ كذا وكذا، أو لشيء تركتُه: هلا فعلتَ كذا وكذا».
وفي رواية عند الإمام أحمد: «ما قال لي فيها أف».
وفي رواية له أيضاً: «والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف» ( ).
وهنا
نتساءل: ألم يخطئ أنس مع النبي صلى الله عليه وسلم قط؟ ألم يصنع ذلك
الغلام ما يصنعه أي غلام في سنه من لهو وتشاغل وعبث، ألم يقع منه خلال عشر
سنين ما يقع فيه أبناؤنا وخدمنا كل يوم من زلل وخطأ؟ أوليس هو من جنسنا؟ أم
كان هذا الغلام غلاماً فوق العادة؟
لا لم يكن أنس كذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم يستعيض في توجيهه عن السب والتعنيف والتأفف بالرفق والتماس الأعذار.
وبينما
النبي صلى الله عليه وسلم جالس ذات يوم بين أصحابه في مسجده، إذ دخل
أعرابي، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لقد تحجرت واسعاً ».
ثم مالبث أن
عرضت له حاجته، فتنحي وتبول في ناحية من المسجد، فثار إليه الصحابة ليقعوا
به بسبب هذه الفعلة الشنيعة وهو الذي دعا عليهم قبل قليل بالحرمان من رحمة
الله، ثم هو لا يدرك حرمة المساجد؟! أما يدري أن طهارة المكان شرط من شروط
صحة الصلاة؟ كيف يجعل من ميدان الطهر محلاً لقضاء حاجته.
رأى النبي صلى
الله عليه وسلم هبَّة الصحابة في وجه الأعرابي، وأدرك أن مثل هذا الأعرابي
جاهل بأحكام المساجد، غير قاصد هتك حرمتها، فقال: «لا تزرموه، دعوه» وذلك
حتى لا يتأذى بحبس بوله وانقطاعه، وأرشدهم إلى حل بسيط تصغر بمثله كل
مشكلة؛ مهما كبرت في عيون أصحابها، فقال: «هريقوا على بوله سِجلاً من ماء
أو ذَنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» ( ).
ثم
لما أتم الرجل حاجته دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له موجهاً
وناصحاً: «إن هذه المساجد لا تصلح لشـيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي
لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن..» ( ).
وفي هذا الحديث: "الرفق
بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء؛ إذا لم يأت بالمخالفة
استخفافا أو عناداً، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما لقوله صلى الله
عليه وسلم: «دعوه».
قال العلماء: كان لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع
عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع
الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه
في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد"( ).
إن
واحداً منا لا يصنع مثل هذا مع ابن صغير من أبنائنا يصنع أقل من هذا الصنيع
الشنيع الذي وقع فيه رجل وافر العقل والفهم، فما أحرانا أن نفعل كما فعل
صلى الله عليه وسلم إمام الرفق واللين ، أدبه ربه بأدب نحن أحوج إليه ﴿
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ (آل عمران: 159)، فلئن قيل هذا للنبي
صلى الله عليه وسلم وهو أعظم خلق الله فإنه من باب أولى يصلح شعاراً ينصبه
كل واحد منا تلقاء وجهه وهو يثور لأتفه الأسباب وأهونها.
ولنتدبر موقفاً
آخر يقصه علينا معاوية بن الحكم t، فقد دخل المسجد يوماً يصلي مع الصحابة
خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فعطس رجل أمامه ، فشمَّته معاوية وهو يصلي (
).
ولما كانت الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس استنكر الصحابة
فعله، وهم في صلاتهم، يقول معاوية: (فحدقني القوم بأبصارهم) لاستغرابهم من
رجل يتحدث وهو في الصلاة. لكن الموقف ازداد تعقيداً حين استنكر معاوية
أنظارهم، وجعل يقول لهم وهو في صلاته: (واثكل أمياه، مالكم تنظرون إليّ؟).
فزاد
استنكار الصحابة لكلامه في الصلاة (فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم) ،
وأخيراً فهم معاوية مرادهم: (فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت).
وحين
انتهت الصلاة لنا أن نتخيل الأنظار وهي تتوجه إلى معاوية تلومه، ومثل هذا
يتمنى – كما يقولون – لو تنشق الأرض وتبتلعه قبل أن تلتهمه العيون بنظراتها
العاتبة القاسية!.
الجميع يرقب فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل الذي جهل ما يعرفه أطفال المسلمين عن حرمة الصلاة وبطلانها بكلام الناس فيها.
يقول
معاوية: فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني، بأبي هو وأمي، ما
ضربني ولا كهرني ولا سبني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً
منه، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح
والتكبير وقراءة القرآن»( ) .
إن كل ماذكرناه عن العفو والصفح وحسن
المعاملة مع المخطئ لن ينسينا حقه في التأديب والإرشاد إلى الحق من غير
إحراجه ولا فضحه أمام الآخرين، لذا كان من أساليبه صلى الله عليه وسلم في
تنبيه المخطئ، التعريض بالمخطئ وإرشاده على الملأ من غير تصريح باسمه، فهو
يوصل إلى المخطئ المعنى المرادَ، من غير أن يجرح شعوره أو يفضحه بين
إخوانه.
تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
بلغه عن الرجل الشيءَ لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: «ما بال أقوام
يقولون كذا وكذا» ( )، وفي حديث أنس وفي إسناده ضعف أنه صلى الله عليه وسلم
كان لا يكاد يواجه أحداً في وجهه بشيء يكرهه، فجاءه رجل يوماً وعليه صفرة ،
فقال: «لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة»( ).
وأمثلة ذلك في سيرة
النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها أن ثلاثة نفر من الصحابة ألزموا
أنفسهم بالسهر والرهبنة والصوم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمرُهم
حمِد الله وأثنى عليه، وقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي
وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»( ) .
ولما بلغه عن أناسٍ أنهم يواصلون الصيام قال معرضاً بهم: «ما بال رجال يواصلون؟ إنكم لستم مثلي»( ) .
ولما
بلغه أن بعضاً من أصحابه يرفعون أبصارهم إلى السماء قال النبي صلى الله
عليه وسلم: «ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم»( ) .
ولما
أرادت عائشة رضي الله عنها شراء جارية اسمها بَرِيْرة رفض أهلُها بيعَها
إلا بشرط أن يكون ولاؤها بعد العتق لهم، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
على المنبر فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من
اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة»( ) ، وفي كل
ذلك ما يحفظ للمخطئ كرامته ؛ مع الحفاظ على حقه الآخر بالتوجيه والإرشاد.
وأحياناً
كان صلى الله عليه وسلم يخاطب بنصيحته غير المخطئ، وهو يقصد أن يُسمِعه
النصيحة والتوجيه، فعن سليمانِ بنِ صُرَد قال: استب رجلان عند النبي صلى
الله عليه وسلم، ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مُغضباً قد احمر وجهه،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه
ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
ولما كان الغضبُ
مستبداً بالرجل كان خطابُه بهذه الطريقة أولى من خطابه بالنصيحة مباشرة،
لذا لما واجهه الصحابة بقول النبي فقالوا: ألا تسمعُ ما يقول النبيُ صلى
الله عليه وسلم؟ أعماه الغضب فقال: إني لست بمجنون ( )، فمثل هذه الحالة لا
يفيد فيها النصح المباشر.
وأحياناً كان صلى الله عليه وسلم يوجه المخطئ
عن طريق الإشارة، أو بتوجيه النصيحة إلى غيره ليسمعها المخطئ فيتنبه
لخطئه، ومن أمثلته أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً جالساً وسط
المسجد مشبكاً بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم ،
فلم يفطن الرجل، ولم ينتبه لإشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
فالتفت
عليه الصلاة والسلام إلى أبي سعيد فقال: «إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين
أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، فإن أحدكم لا يزال في صلاةٍ ما دام في
المسجد حتى يخرج منه» ( )، يعلمنا صلى الله عليه وسلم طريقين من طرائق
تنبيه المخطئ من غير أن نسيء إليه أو نحرجه أمام الآخرين، أولهما: تنبيهه
بالإشارة. والثاني: توجيه الكلام والنصح إلى غيره، وفي كل ذلك ما يحفظ
للمخطئ منزلته، ويراعي حاله، ويؤدي في نفس الوقت إلى نصحه وتقويمه، و إرشاد
غيره.
وفي بعض الأحيان يلزمُ المربيَ أو الأبَ أن يعاقب المخطئ على
خطئه، لكن ذلك لا يعني سباباً وخصاماً وصياحاً كما يصنع الكثيرون، فما هكذا
يقوَّمُ المخطئ، وما هكذا كان يصنع القدوة صلى الله عليه وسلم، يقول أنس
t: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، كان
يقول عند المعتبة (أي العتاب): «ما له ترب جبينه»( ).
و قوله:«ترب
جبينه» هي "كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط
جبينه للأرض، وهو كقولهم: رغم أنفه، ولكن لا يراد معنى قوله ترب جبينه ..
أي أنها كلمة تجري على اللسان، ولا يراد حقيقتها"( ) .
وهي كمثل قول
النبي صلى الله عليه وسلم: « تَربت يداك »، ومراده منها كما قال الأصمعي: "
الاستحثاث، كما تقول للرجل : "انْجُ ثُكلتك أمك"، وأنت لا تريد أن تثكل" (
).
وأحياناً يستلزم الموقفُ من المربي العقوبةَ، ولكنها عقوبة المحب
المشفق، لا المنتقم المتشفي، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد عقوبة
واحد من المخطئين فإنما يسلك أخصرَ الطرق وأقومَها وأليقها، ومن ذلك هجره
للمخطئ تربية له وردعاً، فقد هجر صلى الله عليه وسلم كعبَ بنَ مالكٍ
وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك.
ولندع كعبَ بنَ مالكٍ يـشرح لنا بعضاً من معالم هذا الدرس النبوي البليغ.
يقول
كعب: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، فاجتنبنا
الناسُ، وتغيروا لنا، حتى تنكرت الأرضُ في نفـسي، فما هي التي أعرف، فلبثنا
على ذلك خمسين ليلة، وكنت آتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأسلمُ عليه
وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام عليّ أم
لا، ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي،
وإذا التفتُ نحوَه أعرض عني ( ).
وحين استكمل الدرسُ التربوي دورَه
البالغ؛ أنزل الله توبة كعب وصاحبيه ﴿ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ
اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ (التوبة: 118).
وهكذا فالهجرَ عقوبةٌ
تربويةٌ ناجعة، لكن ينبغي أن نتذكر أنها تنجح في إصلاح البعض دون الآخرين،
فهي وسيلة تعتمد على كمال الحب بين المعاقَب والمربي، كما هو الحال بين
النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه كعب بن مالك t.
وأما حين نفقِد محبة
الآخرين فإنهم لن يبالوا بهجرنا لهم ، بل لربما رحبوا به، ووجدوه فرصة
للتخلص من التزاماتهم الأدبية ، وحينها يصبح وسيلة خاطئة يفضَل اجتنابُها
ويحسُنُ تركُها.
ولرب قائل بأن الرفق صعب وبعيد المنال عندما يسـيء
البعض إلى أشخاصنا، فيتطاولون علينا بالسب أو الشتم ، فماذا عسانا نصنع
معهم؟ ألا نقابل سبابهم بسباب وتطاولهم بمثله؟
ولهؤلاء نقول: دعونا ننظر كيف صنع نبينا صلى الله عليه وسلم حين سبه الناس وشتموه؟
دخل عليه ذات يوم نفر من أهل الكتاب، فبدلاً من أن يلقوا عليه تحية السلام؛ قالوا له بصفاقة ووقاحة: السام عليك، والسام تعني الموت.
فلم يزد r على أن قال: «وعليكم».
ظنت
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك
حقيقة قولهم، وأنهم استبدلوا (السلام) بـ (السام)، فقالت وهي تدافع عن
زوجها وتنتصف له من قلة أدب هؤلاء الزوار وإساءتهم إلى مزورهم في بيته:
(السام عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم).
لكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قاطعها قائلاً: «مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف أو
الفحش»، وفي رواية النسائي: «يا عائشة، عليك بالرفق، فإن الله يحب الرفق في
الأمر».
فقالت رضي الله عنها: أولم تسمع ما قالوا؟ فأجابها صلى الله
عليه وسلم بلسان المستعلي على إساءات الآخرين: «أولم تسمعي ما قلتُ؟ رددتُ
عليهم ، فيستجابُ لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ» ( ).
فهل نستطيع أن
نصنع مثل هذا الصنيع، فنقابل السباب بالإعراض، وهل يقدر الواحد منا أن
يدافع عن غريمه وسابه؛ كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين منع عائشة رضي
الله عنها من مقابلة خطئهم بمثله، إنا نستطيع ذلك بقدر ما نحب نبينا
وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، فالتأسي هو علامة المحبة وبرهانها.
بعد
غزوة حنين قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بين فقراء المهاجرين
ومسلمة الفتح، فأعطى ضعاف الإيمان أكثر مما أعطى غيرهم من الأنصار الراسخين
في الإسلام، فقال رجل قليل الأدب ضعيف النظر: إن هذه لقسمة ما أريد بها
وجه الله.
فأتى ابن مسعود النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته،
فغضب حتى رأى ابن مسعود الغضب في وجهه، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يجاوز
أن قال: «يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا، فصبر» ( ).
وأما
الأنصار رضوان الله عليهم، فوجدوا في أنفسهم من غير أن يتهموا النبي صلى
الله عليه وسلم، ودخل عليه سيدهم سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا
الحي [أي الأنصار] قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي
أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا
الحي من الأنصار شيء؟
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعرف إن كانت حكمة
فعله معلومة عند سيد الأنصار أم لا ، فسأله: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟»
فقال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا [إلا واحد من قومي].
فقال
صلى الله عليه وسلم: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة»، فخرج سعد، فجمع
الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم متذكراً فضلهم وسابقتهم في
الإسلام، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: «يا معـشر الأنصار،
ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضُلالاً فهداكم
الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟».
فتذكروا مِنة الله ورسوله عليهم وقالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل .. ولله ولرسوله المن والفضل.
فقال
صلى الله عليه وسلم: «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدقتم ، أتيتنا
مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنـصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك،
أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً
ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معـشر الأنصار أن يذهب الناس
بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي
نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً
وسلكتِ الأنصار شِعباً لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء
الأنصار وأبناء أبناء الأنصار».
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً ( ).
وهكذا
كان صلى الله عليه وسلم يقابل الإساءة والجهل، وهكذا ينبغي أن يصنع كل
مسلم، فهل ترانا نتأسى به صلى الله عليه وسلم ونقتدي حين يـسيء إلينا
الآخرون من أبنائنا أو جيراننا.
***